س: متى كانت أول مرة سجنت فيها لمدة طويلة؟
م ن: بعد ثورة تموز كانت هناك انتخابات نقابة المعلمين في الكاظمية وذهبنا لننتخب. وقتل مدرس شيوعي من الأعظمية. كان البعثيون هم الذين قتلوه ولكنهم اتهمونا. وبالرغم من وجود عبد الكريم قاسم فإن جانباً من القضاء كان معهم، خصوصاً الشرطة. اتهموني بالقتل وأنا لم أكن موجوداً هناك أساساً. كان المقتول واحداً منا. وضعوني في موقف السراي لمدة أربعة أشهر. والموقف أصعب من السجن. كل يوم كانوا يأتون بأناس حشاشين ومجانين. ثم هو ضيق جداً. وأذكر في فترة ما بدأوا باحتجاز صباغي الأحذية الأكراد وغيرهم. واكتظ الموقف تماماً. كانت هناك ردهات وساحة. ولكثرة ما كان هناك ناس لم يكن بإمكان المرء أن يمشي. كان ذلك في الصيف. فوق المحل أسلاك شائكة ولا يمكنك رؤية السماء بسبب بخار الأنفاس المتصاعد. كنا ننام على جنب لعدم وجود مكان طبعاً. فلكي تتقلب كان ينبغي أن تقف وتدور لتنام على الجانب الاخر. كانت تجربة مثيرة بالنسبة لي. لم أجلس مع السياسيين. كنت أذهب وأجلس مع الناس العاديين وأستمع إلى قصصهم. حين تتكلم مع السياسي تراه يرتدي قناعاً أيديولوجياً ولا تراه على حقيقته. لا يريك الجانب الإنساني. أما الإنسان العادي فيفتح لك قلبه. حتى لو كان حشاشاً مثلاً، يقول لك أنا كذا وكذا وكل شيء عن حياته ولماذا أصبح حشاشاً. يحدثك عن أزقة بغداد القديمة وأشياء كثيرة. كتبت مسرحية عن هذا قدمناها في دمشق. بطل المسرحية شخص اسمه «أبو سكيو» وهو أحد الحشاشين الكبار الذين قابلتهم في السجن وقصته بديعة جداً. هذا عالم يُكتب عنه الكثير، عالم الناس العاديين. بعد انقلاب ١٩٦٣ كانت هناك مقاومة في الشوارع بالحجارة.
كيف هربت؟ بدون تفكير واع. أحياناً يقودك عقلك اللاواعي. اختبأت في بيت ثم انتقلت إلى بيت آخر. والذي خبأني كان مصلح سيارات لا أعرفه. وهناك قصص طويلة حول البيت وأهله. ذات يوم طُوّق البيت بالرغم من أنني لم أكن أخرج أبداً. شعروا، لسبب ما، بوجود شخص في البيت. لم أكن أترك الغرفة لكي لا يراني الأطفال ويخبرون زملاءهم في المدرسة. كنت أقضي حاجتي في حاوية. لا أدري كيف عرفوا يومها. كان البيت خالياً إذ كان أهل البيت قد خرجوا في زيارة. سمعت صوت سيارات، وعندما نظرت من النافذة شاهدت تسع سيارات تابعة للحرس القومي وقد طوقت البيت. كنت أسمع حوارهم وهم يتباحثون حول كسر باب الحديقة. ثم مر الچرخچي وكان أخو رئيس الحرس القومي للمنطقة. وقال لهم هذا بيت أبي فلان ولا علاقة له بالسياسة. ولولا مرور هذا الرجل لألقي القبض علي. بعدها حاولت أن أخرج وقمت بتزوير الهوية. ولكن كان يجب أن أخرج من البيت لآخذ الصورة عند المصور. فطلبوا من ذات الچرخچي ملابس تقليدية وارتديتها. وبينما أنا أتهيأ للخروج رآني هو مرتدياً ملابسه. أخذت الصورة وأعدنا له ملابسه ثم خرجت إلى البصرة. بعدها عرفت أنه كان على علم بوجودي طوال الوقت.
س: ماذا عن قصة الهرب الشهيرة؟
م ن: في البداية حاولنا الهرب من سجن نگرة السلمان. كانت بداية تفكير لأن الوضع السياسي كان يدل على أن الموضوع سيطول لسنة أو أكثر. الوضع كان سيئاً ولم تكن هناك، بتقديري طبعاً، بوادر نهوض جماهيري للتغيير. كانت هناك محاولة اتهريب سجين من الموصل لأنه كان ضابطاً مهدداً بالإعدام. كان هناك بئر يتم حفره خارج السجن فكانوا يستعينون بالسجناء في الحفر. وقام هؤلاء بتغطية الضابط بالشوالات وأنزلوه إلى البئر كي يهرب في الليل. ومر الشرطي ورأى الحبل وسحبه، فبقي السجين طوال الليل في البئر. وبسبب البرد أصيب بالتهاب في الكليتين. أخرجه العمال في اليوم التالي. وكان موعد المحاكمة خلال عدة أيام فأخرجناه مرة ثانية ونجح. كان هناك بئر بين نگرة السلمان وبين السماوة اسمه «سلحوبية» كان من المفترض أن يكون علامة له على الطريق لكنه زل قليلاً. والنهار، طبعاً، حار في الصيف، ويبدو أن الحمّى تفاقمت عنده ولم يبق عنده من ماء القناني التي كانت معه. كان من المفترض أن يبعث لنا خبراً من السماوة وحين تأخر اضطررنا للتبليغ عنه. قلنا على الأقل سيبحثون عنه فلربما كان تائهاً. كان اسمه صلاح ووجدوا جثته وكانت صورة ابنته في يده. وكانت الذِئاب قد نهشته. بعدها توقفت عمليات التهريب من نگرة السلمان لخطورتها.
في سجن الحلة تم انتخابي لأترأس هيئة إدارية من قبل السجناء. وهذا مكنني من الحركة لأنه كان هناك إشراف على الغرف والطبخ والصيدلية. كل هذه الأشياء كانت لدينا. فبدأنا نفكر بعملية حفر نفق. وهي قصة طويلة يمكن أن تحول إلى فلم ممتع.
س: هل كانت فكرتك أنت؟
م ن: كنا أربعة نفكر فيها سوية. أنا كنت أرسم، ولذلك كنت مكلفاً بالتخطيط. خرجت إلى السطح لأرى ما كان موجوداً حولنا. كان التفكير في البداية أن نخرج من الجهة الخلفية. حيث كان أحد الأزقة ينتهي إلى السجن ولم تكن به أي حركة في الليل. لكن بعض السجناء أحس بالموضوع وكانت هناك صراعات بين القيادة المركزية واللجنة المركزية للحزب الشيوعي. وحدثت شبه وشوشة كادت تشي بالموضوع. فبدأنا نفكر بموضع ثان من الجهة التي تؤدي إلى كراج الحلة. وسارت العملية بصورة جيدة. حفرنا نفقاً طوله ثلاثة وعشرين إلى خمسة وعشرين متراً. كانت هناك مشكلة التخلص من التراب واستخدمنا طرقاً عديدة. الذين خرجوا كانوا أكثر من عشرين شخصاً. كنا قد اتفقنا على إبقاء النفق مفتوحاً لكي يخرج كل من يريد. لكن كان هناك صراخ وانتبه الشرطة بعد خروجنا. وصلت إلى بغداد واختبأت فيها لفترة ثم بدأ التخطيط لموضوع الكفاح المسلّح. وكان الاتفاق هو أن يعقد مؤتمر للكفاح المسلح في الجنوب قبل الشروع بأي عمل. ولا أدري لماذا كان هناك استعجال ولم يعقد المؤتمر. البؤرة الأولى كانت في الأهوار ولم نكن هناك. كنا في ريف الحلة على نهر الغرّاف. وكانت مهمتنا هي التحضير للمؤتمر الذي لم يعقد. وهذه هي أحد أسباب الانتكاسة التي حدثت. ذهب الشهيد خالد أحمد زكي وشخص آخر لكي يقودوا العمل هناك. الحياة في الأهوار كانت في غاية الصعوبة وتتطلب من يمكنه أن يتعود عليها. كان الفلاحون متحمسين ولديهم بنادق. نحن تسلحنا ببنادق عادية وبعد ذلك، من خلال التبرعات، اشترينا رشاشات كلاشنكوف. إلى أن طوقت البؤرة الثورية وتم ضربها في الأهوار. كانت الأخبار متضاربة فمنهم من يقول انتصارات ومنهم من يقول هزيمة. قُتل خالد أحمد زكي وقسم ممن كانوا معه وألقي القبض على قسم آخر. لكن كانت هناك إمكانية عمل واسعة في الأهوار. كان عملنا هو أن نكون نقطة اتصال بين بغداد وبين الأهوار وتجميع السلاح وحفر مخازن له وضم الفلاحين للحركة. وهذا كان تنظيماً عسكرياً يختلف عن التنظيم المدني. وفي تلك الفترة وقع الانقلاب الأخير (١٧تموز، ١٩٦٨). ويبدو أن أحد الأسباب كان التحرك في الجنوب. لأن البيان الأول الذي أذاعوه قال إن الأمور في عهد عبد الرحمن عارف وصلت من السوء بحيث أن التحرك لم يكن في الشمال فقط، بل تفشت الاضطرابات في الجنوب. وهذا هو الأخطر، لأنه طوال تاريخ العراق لم يتمكن أي تحرك في الشمال من أن يحسم الوضع داخل بغداد على الإطلاق. بعكس التحرك في الجنوب. والدليل أن الدول التي ضربت العراق عام ١٩٩١ أرعبها أن يحدث شيء في الجنوب، أي الانتفاضة. ولذك ساعدت في القضاء على الانتفاضة تحت غطاء تهم وأمور عديدة. لديهم خوف من الجنوب لقدرته على حسم الأمور في بغداد. وكاد الوضع أن يحسم في بغداد. هنلك أخطاء عند المعارضة في الخارج. كان تقييمها للوضع خاطئاً وكذلك شعاراتها ومؤتمراتها. كانت تشكو من أخطاء كبيرة. في الداخل ربما كانت هناك اندساسات وتم رفع بعض الشعارات الخاطئة.
س: تقصد شعارات دينية؟
م ن: شعارات أعطت للحركة طابعاً طائفياً وهي لم تكن كذلك. كانت الحركة ضد السلطة. الجيش الذي انسحب مذلولاً هو الذي كان شرارة البداية وهو الذي فتح النار ضد السلطة. وقعت أخطاء كثيرة. أعتقد أنا ما يخدم الوضع في العراق هو أن لا تلعب الأقطار المحاذية دوراً في إرباك وضعنا الداخلي. المطلوب هو الإسناد فقط. أما التدخل والكلام والإذاعات فهذا لا يخدم الوضع كثيراً.
س: من الواضح أن لكل من سوريا وإيران وتركيا خطوطاً معينة داخل المعارضة يتم دعمها لتحقيق أهداف معينة. لا أطلب منك التكهن بالمستقبل طبعاً، ولكن من قراءتك للوضع وآخذين بنظر الاعتبار كل ما ذكرت من ظروف، هل ترى احتمالات نشوب انتفاضة ثانية؟
م ن: أعتقد بأن الوضع في العراق مهيأ للاشتعال في أي لحظة. الإشكال هو في القيادات السياسية. عندما نتحدث عن الدول المجاورة نعرف أنها لا يمكن أن تعمل بدون قيادات موجودة أساساً داخل الحركة السياسية العراقية. المطلوب من القيادات السياسية هو أن تبني علاقاتها على أساس مصلحة العراق قبل كل شيء. وهي مصلحة الأمة العربية والمنطقة كلها والعالم الثالث. إذا ما تحرر أي بلد فسيكون ذلك في مصلحة الكل. الإشكال هو دائماً في القيادات السياسية. عدد كبير منها لا يساعد تاريخها على أن تثق بها إطلاقاً. هو تاريخ ملئ بالإشكالات وليس فيه أي شيء يدل على حب الشعب العراقي. ثم ترى هذا التكالب على الأموال كأنما الأمر مصدر ثراء. لقد أصبح وجود بعض القيادات في المعارضة مصدر ثراء لها. أذكر مرة كنت جالساً في مقهى وتوقفت سيارة مرسيدس سوداء ونزل منها أحد قادة المعارضة. وتوالت وراءها ست سيارات. كانوا يلتقون على موعد غداء.
س: في دمشق؟
م ن: لا يهم أين. فرآني أحدهم وكان يعرفني. ارتبك وقال: لدينا اجتماع. هذا وضع غير معقول. الناس تتضور جوعاً سواء في الداخل أو في الخارج. وضع العراقيين لا يحسد عليه. طبعاً نقول إن البلد الفلاني مشكور لأنه يسمح للعراقيين بالبقاء فيه. . . إلخ. لكن وضعهم صعب ووضع هذه البلدان أساساً صعب اقتصادياً.
س: يقال الكثير عن عدم وجود قيادات ورموز لها مصداقية، فماهو السبب؟ هذا الشعب المعطاء. . . هل هي الاغتيالات والتصفيات، أم ماذا برأيك؟
م ن: طبعاً التصفيات لعبت دوراً مهماً. عدد كبير من الكادر السياسي الجيد تمت تصفيته وصار هناك فراغ كبير. والمفروض أن يسد هذا الفراغ من قبل أناس آخرين. إن تمكن بعض القيادات غير الجديرة من قيادة العمل جاء سبب الوضع المادي. هناك إسناد من دول أجنبية، أمريكا وغيرها، لسبب ما. وهذا يمكنهم من الحركة أكثر من آخرين لديهم تاريخ جيد ومشرف ولكن ليست لديهم إمكانية. ثم القيادي النزيه والجيد ليس مستعداً لأن يساوم و«يمسح جوخ». أما الآخرون فمستعدون لأي شيء. أذكر مرة كنت أزور إحدى حركات التحرر وفيها قيادات متعددة. كنت أريد أن أطلع على تجربة فصيل من فصائلهم. وأحد القادة كان في زيارة إلى السعودية. وعند وصوله إلى السعودية بدأ يتكلم مثل السعوديين بالضبط. ذهب إلى الصين وأخذ يتكلم مثل الصينيين بالضبط. هذه كارثة طبعاً. ولذلك عندما حدث التغيير في هذا البلد كان لصالح فئات أخرى ولم يحدث شيء. أنا أتحدث عن أرتريا وهو وضع غير جيد. جاء شخص لم يكن مرشحاً إطلاقاً ولديه علاقات مع إسرائيل أيضاً.
س: هل حاربت في إرتريا؟
م ن: حملت السلاح معهم لمدة ثلاثة أو أربعة أشهر.
س: في أي فترة؟
م ن: ١٩٧٠-١٩٧١. وفي ظفار بعدها بفترة وجيزة.
س: ماذا عن مناطق أخرى؟
م ن: ذهبت إلى فلسطين. كانت هناك عملية واحدة في الأغوار لكي أرى فقط. أطول فترة كانت مع الإرتريين. ليس القصد حمل السلاح معهم. فهم لديهم من يقاتل ولا يشكون من نقص عددي. الهدف هو دراسة التجربة ومعرفة أبعادها والتقاطعات الدولية لكل تجربة. وكذلك التعرف على الإشكاليات ومقارنتها مع الكفاح المسلح في جنوب العراق، مثلاً، أو الثورة الفلسطينية. بالإضافة إلى البعد السياسي والنضالي، هناك بعد جمالي بالنسبة لي أيضاً. كنت أفرح جداًَ عند الذهاب إلى هذه المناطق. أولاً، تلتقي مع الطبيعة وجهاً لوجه. وتلتقي معها وأنت على حافة الخطر لأنك معرض للقصف في أي لحظة من قبل قوات هيلا سيلاسي مثلاً. كانت هناك دوريات تمر ومعك كلاشنكوف وعدد من الثوار. وجودك على حافة الخطر يجعل الجسم مثل جهاز رادار تختلف استقبالاته. دستيوفسكي يتحدث عن هذا بشكل جميل. يتعرض لحكم الإعدام ولكن قبل دقائق من تنفيذه جاء العفو فيتحدث عن حسه بالحياة في تلك اللحظة. وأنا عشتها في إرتريا لأن الخطر كان ممكناً في أي لحظة وهناك طائرات ودوريات. فتشعر بوجود حوار مع الأشجار والصخور ومع كل شيء. حوار حقيقي وليس مجازاً. تشعر بأحاسيس كل ما هو حولك. كل هذا عنده حس ويشكل نسيجاً حياتياً واحداً وأنت جزء منه. ليس هذا بالشيء القليل. إن تجربة من هذا النوع تعطيك الشمول الذي يكون عند الصوفية الكبار مثل ابن عربي والحلاج ورابعة. أنا أعتقد بأن ما لم يكتب عنهم هو أنهم بالتأكيد شعروا أنهم جزء من هذا النسيج الحي الكبير الذي هو الحياة، أو الكون. هذا أخطر ما في التجربة الصوفية ولم تتم الإشارة إليه إلى الآن.
س: مع شعرك يحس المتلقي بأنك في حالة طرب مع الكون. وأنت تقول في إحدى قصائدك «طربٌ بالكون وغبيّ من لا يطرب.» فما الذي يطربك؟
م ن: كل ما هو حقيقي وجميل. مثلاً، أنا أخرج صباحاً لأتمشى وأنظر إلى كل ورقة وأسمع أصوات الحيوانات أو النسيم. كل هذه أنتبه إليها. هذه كلها مهمة في التجربة الشعرية. هناك تجربة بسيطة ولكنها هائلة. خرج أحد المتصوفة إلى نيل واسط. كان هناك نهر في العراق اسمه النيل ولكنه جف. وفي زرقة الصباح رأى طائراً أبيض على المياه. فشهق وقال: سبحان الله يا لغفلة العباد. صار عنده حس جمالي هائل لكي يشهق وينتبه إلى غفلة الناس عن كل هذا الجمال. هذا أكبر من أي صلاة أو عبادة، حسك بالوجود بهذا الشكل. القرآن يقول إن الله أودع شيئاً من الألوهة في الإنسان. هذا هو حس الألوهة. هنا تشعرأنك جزء من هذا الكون الجميل.
س: تأثير الماركسية واضح على حياتك وشعرك. أين تقف منها الآن؟
م ن: كنت عضواً في الحزب الشيوعي لفترة طويلة. ومن البداية كنت أعتبر أن الماركسية مهمة جداً، لا سيما في جانبها الاقتصادي. لكني أختلف معها في قضايا معينة. وكنت أقول هذا من البداية حتى عندما كنت في الحزب.
س: مثلاً؟
م ن: قضايا كثيرة.
س: ما هو موقفك من قضية الإله؟
م ن: هذه هي إحدى الإشكالات. أقول في القصيدة «سمّاره كنّا وكان الأرقا».
س: هناك منحى صوفي في أعمالك الأخيرة.
م ن: هو موجود منذ البداية ولكن لم ينتبه إليه.
س: صحيح، ولكن مؤخراً أكثر.
م ن: هو عامل السن الذي يجعلك تركز تجربتك أكثر. فيكون حسك الجمالي أعمق. بخلاف ما يقال عن أن الشباب أكثر حساسية للجنال. أنا أعتقد بأن هذا يعتمد على بنية الإنسان، لا كونه شاباً أو كهلاً. ويعتمد على كيفية استقبال العالم.
س: يقول ماركيز إن الحب الحقيقي لا يبدأ إلا بعد الستّين.
م ن: هذا يعتمد. هناك من لا يستوعب الحب حتى لو صار عمره مئتي سنة.
س: إذا أنت لست ملحداً؟
م ن: « أنا لم أشرك» أقول في القصيدة. لكن هذا ليس متأتياً من قناعات دينية ولكن بسبب تجربتي. التجارب التي مررت بها تدل على أن الكون ليس عبثياً أو عفوياً أو. . . إلخ.
س: أنت لا ترى الموضوع ضمن السياقات التقليدية. كيف تراه إذاً؟
م ن: أنا لست طقوسياً. في القرآن قوانين عامة، كونية ووجودية. وهناك ما هو لمخاطبة أناس من ذلك الزمان. لقد جاء هذا بلغتهم، لغة قريش، كي يستوعبه الناس ويعوه. مثلاً، الخمرة حرمت تدريجياً لأنهم كانوا يصلون وهم سكارى. ربما كان هناك جانب بشري هام عموماً في الطقوس. لأن الإنسان، وبالرغم من كل تطوره، فمازالت قشرة خفيفة فقط من دماغه هي المتحضرة . وفي لحظة واحدة يمكن أن تطير هذه القشرة ويصبح متوحشاً. فربما تساعد الطقوسية، من هذه الزاوية، في تهذيب الإنسان. لكن عندما يكون لديك حس عال بالوجود والكون، تشعر أنك. . . كما أقول في قصيدة «جسر المباهج» «كلّ حسب طريقته يصلّي.»
س: هذا يقودنا إلى الظاهرة الدينية وتسييس الدين. ما هو رأيك بالموضوع؟ إلى أين تقودنا وما هي تحفظاتك عليها؟
م ن: إذا ما كان هناك تحفظ فهو أن يكون التيار الديني أكثر تسامحاً وأكثر انفتاحاً. يجب أن تكون هناك عقلية منفتحة على العصر كله. أنا أعتقد أن هذه حركات مهمة جداً. خذ لبنان، مثلاً، الجزء النابض من المقاومة ضد الصهيونية هو حزب الله. طبعاً هناك المقاومة الوطنية لكن حزب الله هو رأس الرمح فيها. لقد دوخ إسرائىل بقتاله وهو يقدم ضحايا بشرية هائلة. ليست هذه الحركات مهمة من هذه الزاوية فقط. الحياة دائماً بحاجة إلى توازن بين ما هو مادي وبين ما هو روحي. لكن ليس من الروحي أن تقتل شرطياً أو معلمة أو صحفياً في الجزائر. ما هو ذنب هؤلاء المساكين؟ هولاء جزء من مقاومة أوضاع معينة من استعمار وما شابه. هذا شيء غريب لا أدري ماذا أقول عنه. هل تسقط النظام بقتل شرطي؟ كلا، إطلاقاً. الشرطي مجبر ومسكين.
س: انتقدت اليسار العربي في شعرك. ما هو تعليقك على وضعه الحالي وهل له مستقبل؟
م ن: هناك مقولة لهوتشي منه وهي « إن قضية الشعب الفيتنامي هي قضية الحزب الشيوعي الفيتنامي. وعلى كل الأحزاب الأخرى أن تتبع رأي الحزب الشيوعي الفيتنامي.» أي أن لا يتدخلوا ومن هنا كان نقدي. إن العراق قضيتنا نحن وليس قضية الاتحاد السوفيتي أو المعسكر الاشتراكي أو الرأسمالي. هذه مصالح دولية أثبتت الأيام أنها موجودة ولم تزل. وإذا ما كان هناك لوم وعتاب وتجريح بالنسبة لليسار، فهذا هو أحد الموضوعات. الشيء الآخر الذي يجب أن يفهم الجماهير وحسها ونبضها بشكل جيد. أن يفهم تاريخها وأن لا ينعزل عنه وأن لا يهمل الجماهير مهما كانت متخلفة. مثلاً، عندما قتل السادات، ومهما قيل عن القضية، فهي كانت رد فعل على توجهات السادات واندفاعه نحو إسرائيل. نفذت العملية من قبل مجموعة من الجنود ومن ضمنهم خالد الإسلامبولي. أو حادث جهيمان وموضوع الحرم. ظل اليسار ساكتاً وكذلك قواه السياسية. وكان اليمين هو الذي يطبل ويزمر. هذا الرجل هو دم اليسار وقام بحركة ضد وضع تعيس في السعودية.
س: بعد كل الذي حدث في العالم في العقد الأخير، هل ترى إمكانية لصعود التيار الماركسي أو حركات متأثرة به من جديد؟
م ن: الإنسان يتعلّم من التجارب. فيمكن تعلم الكثير إذا ما تمت الاستفادة من مشاق التجربة ومتاعبها ونواقصها. كانت هناك بيروقراطية هائلة. كما يجب الإنصات إلى الجماهير بشكل جيد وهذه أوليات الماركسية. وأن يكون هناك توازن، كما ذكرت، بين المادي وبين الروحي. هناك حاجة بشرية كبيرة لهذا. فنحن نعيش الآن تيارات عبثية فظيعة وجرائم غريبة. شخص يدخل إلى مطعم ويقتل أناساً بدون سبب. وهناك الانتحارات الجماعية أيضاً. وهذه أزمة روحية عند الناس. إن التطور المادي والوصول إلى القمر والكواكب كلها أمور مهمة. لكن قناعات الإنسان الروحية الداخلية، التي ربطها بشكل من الأشكال بهذه القضايا، وهذا خطأ، بدأت تهشم. الجانب الروحي لا علاقة له بالوصول إلى القمر.